ونؤمن بأن الله واحد في ألوهيته، وأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنه هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل، وأن هذا الأمر العظيم هو الذي من أجله أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، وخلق الجنة والنار، ودلت عليه الفطرة، وشهدت له العقول السليمة. ونعلم علم اليقين أن أساس دعوة الأنبياء لأقوامهم هو: دعوتهم لعبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه، قال المولى جل شأنه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون} [الأنبياء: 25]. وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وقال الحق سبحانه: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُون} [الزخرف: 45]، وكل نبي قـال لقومـه: اعبـدوا الله ما لكم من إله غيره، من أولهم نـوح إلى آخرهم محمد عليهم السلام، فقـال الله مخبرًا عن نوح عليه السلام أنه قال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وأخبر عن آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} [ص: 65]، وقـال سبحانه وتعالى: {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل} [الأنعام: 102].
وهذا الأمر العظيم هو الذي من أجله خلق الله الخلق، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56] ومعنى: «يعبدون»، أي: يوَحِّدون، قال البخاري رحمه الله عند تفسير هذه الآية: «ما خلقت أهل السعادة من أهل الفريقين إلا ليوحِّدون». (هكذا في البخاري غير منسوب (6/ 49)، وذكر ابن حجر في «الفتح» أنه قول الفراء (8/ 600).)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ اليَمَنِ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى»، (أخرجه البخاري (1458)، ومسلم (19).) وبوَّب البخاري رحمه الله على ذلك بقوله: «باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى».
والعبادة الحقَّة هي ما كانت خالصة لله رب العالمين موافقة لهدي سيد المرسلين؛ فعبادة كل معبود سواه باطلة، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62]، ومعنى: «لا إله إلا الله»: لا معبود بحق إلا الله؛ لدلالة الآية السابقة على ذلك.
والإيمان بالله وحده وعبادته دون ما سواه هي مضمون: «لا إله إلا الله»، وهذه الكلمة العظيمة تضمنت نفي استحقاق العبادة عن كل معبود سوى الله، ونفي الألوهية الحقة عن كل معبود سوى الله أيضًا، وإثبات الألوهية الحقة لله رب العالمين، وأن العبادة الصحيحة لا تكون إلا لله وحده، وهذه الكلمة جاءت بلفظها في القرآن كثيرًا، ووردت آيات كثيرة بمعناها من النفي والإثبات، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقوله عز شأنه: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].
وهذا الركن الركين والأساس المتين من دين الله -وهو إثبات الألوهية لله وحده، ونفي العبادة عما سواه- هو قطب رحى الدين، وعماد دعوة المرسلين، ومعناها: إفراد الخالق بأعمال الخلق، ولا تكاد تجد سورة من سور القرآن تخلو من هذا الأمر تأسيسًا أو تأكيدًا، وقد أقام الله الحجة على الخلق بأدلة كثيرة، وشواهد عديدة لا يمكن حصرها أو الإحاطة بها، وأعظم دليل على هذا الأمر شهادته سبحانه وتعالى؛ حيث يقول: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون} [الأنعام: 19].
وشهد الله سبحانه وتعالى، وشهد أجلُّ شاهد من خلقه، وهم الملائكة وأولو العلم، على أجلِّ مشهود، وهو وحدانيته وألوهيته، فقال سبحانه وتعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [آل عمران: 18]، فشهدت الملائكة وأولو العلم بما شهد الله به لنفسه: {وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79].
واحتج على خلقه بأنه سبحانه وتعالى هو الخالق لكل ما في هذا الكون، بل جعل كل آية كونية شاهدة على استحقاقه الألوهية والعبادة؛ ولذا يكثر سؤالهم في القرآن عن هذا الأمر وإقرارهم بأنه هو الخالق الرازق المحيي المميت، ثم ينكر عليهم عدمَ عبادته، أو عبادة غيرِه معه، قال الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُون} [العنكبوت: 61 - 63]، وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيم * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُون * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُون * وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُون} [الزخرف: 9-12].
واحتج الله على عباده بأن قرَّرهم بِنِعَمه عليهم التي توجب عليهم عبادة واهب النعم وموجدها، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون * فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُون} [يونس: 31، 32].
وفي القرآن كثيرًا ما يحتج الله على العباد بآيات ربوبيته التي تستلزم عبادته وحده سبحانه وتعالى، وأن الخالق لهذه الآيات الكونية الكبرى هو وحده سبحانه وتعالى، وأنه كما أنه ليس معه خالق سواه، لا ينبغي أن يعبد غيره؛ ولذا ختم هذه الآيات التالية بقوله: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} ، وهي قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُون * أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُون * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُون} [النمل: 60-63].
ولما ذكر المخلوقات العظيمة الدالة على ربوبيته التي تستلزم ألوهيته في سورة الروم، وهي قوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُون * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِين * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُون * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون * وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُون * وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُون * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم * ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون * بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِين} [الروم: 20-29]. استفتح كل آية منها بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ} ؛ أي: ومن الأدلة الكونية الدالة على ربوبيته المستلزمة لألوهيته ما ذكر، ثم أعقبها بذكر هذا المثل الذي ضربه الله لمن عَدَل به شيئًا من خلقه، يقول: «أكان أحدكم مشاركًا مملوكه في فراشه وزوجته؟! فكذلكم الله لا يرضى أن يُعدل به أحد من خلقه»؛ قاله قتادة. (تفسير الطبري (20/95).) ثم ختمها ببيان أن الفطرة السليمة تقتضي عبادته وحده سبحانه وتعالى، ولذا قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون} [الروم: 30].
وقد نوَّع الله في الأدلة التي نصبها شواهدَ على ألوهيته تنويعًا تقوم به الحجة، وتتضح به المحجة؛ لئلا يكون للناس على الله حجة، وكما احتج الله على الناس بالأدلة القاطعة، والحجج الساطعة، وأقام الشواهد الباهرة الدالة على وحدانيته؛ فقد ضرب الأمثلة، وجاء بالحق سبحانه وتعالى، قال المولى جل شأنه: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [النحل: 76]، قال ابن جرير عند تفسير هذه الآية: «وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه والآلهة التي تُعبد من دونه، فقال تعالى ذكره: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ} يعني بذلك الصنم أنه لا يسمع شيئًا، ولا ينطق؛ لأنه إما خشب منحوت، وإما نحاس مصنوع، لا يقدر على نفعٍ لمن خدمه، ولا دفع ضرٍّ عنه، وهو كَلٌّ على مولاه، يقول: وهو عيال على ابن عمه وحلفائه وأهل ولايته، فكذلك الصنم كَلّ على من يعبده، يحتاج أن يحمله، ويضعه ويخدمه، كالأبكم من الناس الذي لا يقدر على شيء، فهو كَلّ على أوليائه من بني أعمامه وغيرهم {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} يقول: حيثما يوجهه لا يأت بخير؛ لأنه لا يفهم ما يُقال له، ولا يقدر أن يعبر عن نفسه ما يريد، فهو لا يفهم، ولا يُفْهَم عنه، فكذلك الصنم، لا يعقل ما يقال له، فيأتمر لأمر من أمره، ولا ينطق فيأمر وينهى، يقول الله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} يعني: هـل يستوي هذا الأبكم الكَلُّ على مولاه الذي لا يأتي بخـير حيث توجَّه، ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحقّ، ويدعـو إليه، وهو الله الواحد القهار، الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته؟ يقول: لا يستوي هو تعالى ذكره، والصنم الذي صفته ما وصف». (تفسير الطبري (17/262).)
وضرب الله أيضًا مثلًا لإله الباطل وإله الحق، كما قاله مجاهد، (تفسير الطبري (21/285).) فقال الحق سبحانه وتعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُون} [الزمر: 29].
وهذا الأمر -وهو الإقرار لله بالوحدانية، مع الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة- هو الذي جعله الله حدًّا في عصمة الدماء، وحفظ الأنفس، قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، وقال سبحانه وتعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ». (أخرجه البخاري (1399، 7284)، ومسلم (20)، وأبو داود (1556)، والترمذي (2607)، والنسائي (2443).)
وهذا الإيمان لا يكفي أن يكون في القلب، بل لا بد أن ينطق به اللسان؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ». (أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22).) ولا يتحقق الإيمان حتى تعمل به الجوارح، قال الحق - وقوله الحق: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2-4]، وقال تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} [البقرة: 177].
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»، (أخرجه مسلم (49)، وأبو داود (1140)، والترمذي (2172)، والنسائي (5008)، وابن ماجه (1275).) فدل هذا الحديث على أن الإيمان يتفاوت في القلب.
ولا بد مع الإيمان بالله من الكفر بالطاغوت، قال الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [البقرة: 256]، والبراءة من الشرك وأهله، فلا يكون موحدًا حتى يتبرأ من الشرك وأهله، قال المولى جل شأنه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُون} [الزخرف: 26].
وهذا الإيمان لا بد أن يكون العبد فيه مخلصًا لله رب العالمين، قال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [غافر: 65]، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} [البينة: 5]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَـامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ ظَنَنْتُ -يَا أَبَا هُرَيْرَةَ- أَلَّا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ». (أخرجه البخاري (99، 6570).)
وقال صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ». (أخرجه البخاري (425)، ومسلم (33)، والنسائي (788)، وابن ماجه (754).)
وأن يكون مستيقنًا غير شاكٍّ، قال الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]، وقال الله مخـبرًا عن صاحب الجنة الكافر أنه قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف: 36].
وأن يكـون إيمانه عن علم، فيعلم حقيقة الإيمان ومقتضاه وما يضاده، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد: 19].
ولا بد مع العلم والإخلاص من القبول لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وبما تضمنه الإيمان، ودلّت عليه كلمة: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} من عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه، فمن قالها، ولم يقبل عبادة الله وحده، كان من الذين قال الله فيهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُون * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون} [الصافات: 35، 36].
وأن يستسلم وينقاد، قال الله تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22].
وأن يكون صادقًا في قوله وفعله واعتقاده حتى ينال ما بشَّر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ». (أخرجه البخاري (128)، ومسلم (32).)
وأن يكون محبًّا لهذا الدين، ومَنْ شرعه، ومن جاء به، ومن دان به، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} [البقرة: 165]، وقال رَسُوُلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ». (أخرجه البخاري (15)، ومسلم (44)، والنسائي (5013)، وابن ماجه (67).) وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المرءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ». (أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43)، والترمذي (2624)، والنسائي (4987)، وابن ماجه (4033).)
وكما بيَّن الله حقيقة الإيمان ومقتضاه وأركانه وشرائطه، فقد نقض شُبَه المشركين المعاندين، وبين أنه ليس لهم حجة في شركهم؛ لأن هؤلاء الأنداد مخلوقون مُدَبَّرون لا يخلقون شيئًا، ولا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُون * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُون * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُون * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُون * إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِين * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُون * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُون} [الأعراف: 191-198]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِير * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23]، وهذه الآية قطعت علائق الشرك كله.
وبين الحق أن هؤلاء الأنداد المعبودين من دون الله لا يسمعون دعاء من دعاهم، ولو سمعوا ما استجابوا لهم، ويوم القيامة يكفرون بشركهم، ويتبرؤون منهم، قال الحق جل شأنه وتعالى سلطانه: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير} [فاطر: 14].
كما بين الحق أن هؤلاء الأنداد المعبودين من دون الله لا ينفعون، ولا يضرون، فكيف يُعْبدون من دون الله؟! قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا} [الفرقان: 3].
وأوضح الحق سبحانه وتعالى أن الأنداد لا يملكون لأتباعهم رزقًا، قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُون} [النحل: 73]، فكيف يعبدون من لا يملك شيئًا، ولا يستطيع أن يرزق، ولا أن ينفع، أو يضر؟!
واحتج عليهم بأنهم إذا مسَّهم الضر، أو وقعوا في الكرب؛ لجؤوا إلى الله وحده مخلصين له الدين، فإذا نجاهم عادوا إلى شركهم، قال الله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون} [العنكبوت: 65].
وكما أبطل الحق دعوى المشركين في اتخاذ الأنداد، فقد أبطل كل دعوى بأن الله اتخذ ولدًا، فقال سبحانه وتعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون} [المؤمنون: 91]، وقال سبحانه وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون} [الأنبياء: 22]. وبين الحق جل شأنه أن اليهود والنصارى زعمت أن لله ولدًا، فقال الحق سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون} [التوبة: 30]، ونقض الله اعتقادهم من أصله؛ فكيف يكون البشر الذي يأكل الطعام إلهًا؟! والإله لا يأكل، ولا يشرب، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر، قال المولى جل شأنه: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُون * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [المائدة: 75، 76].
وأبطل الله عبادة الملائكة، وبين أنهم -مع كونهم مقربين لله- لا يملكون الشفاعة إلا من بعد إذنه، فقال ربنا جل ذكره: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} [النجم: 26]، ويخافون ربهم من فوقهم، قال تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُون * يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [النحل: 49، 50]، وقال سبحانه عز من قائل: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا} [النساء: 172]، فإذا كانت هذه حال الملائكة، فكيف يُعبدون من دون الله؟
وكذلك الأنبياء والمرسلون عليهم السلام مع علو مقامهم في الدنيا والآخرة، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، فكيف بمن دونهم؟! قال سبحانه وتعالى مخبرًا عن الأنبياء أنهم يعبدون ربهم على سبيل الرغبة والرهبة: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين} [الأنبياء: 90]، وأمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول كما أخبر الله عنه بقوله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون} [الأعراف: 188]، ولما دعا صلى الله عليه وسلم على من آذاه من المشركين في غزوة أحد أنزل الله عليه قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُون} [آل عمران: 128]. وعن الزهري قال: حدثني سالم عن أبيه رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنَ الفَجْرِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ العَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا»، بَعْدَ مَا يَقُولُ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُون} . (أخرجه البخاري (4559)، والنسائي (1078).)