ونؤمن أن المرتبة الثانية من مراتب الدين هي: الإيمان، وهو كما جاء في جواب النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام حينما سأله عن الإيمان قال: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»، قَالَ: صَدَقْتَ، ... قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ». (أخرجه مسلم (8)، وأبو داود (4695)، والترمذي (2610)، والنسائي (4990)، وابن ماجه (63).)
والإيمان وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد فسره في حديث جبريل عليه السلام السابق بمعنى خاص وهو قوله: «تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»؛ إلا أنه يأتي أيضًا بمعنى أعم فهو جامع لكل خير، شامل لأعمال القلوب والجوارح، قال الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم} [الأنفال: 2-4].
وفسره النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبدالقيس بالشعائر الظاهرة، ففي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنِ القَوْمُ؟ -أَوْ مَنِ الوَفْدُ؟-» قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: «مَرْحَبًا بِالقَوْمِ، أَوْ بِالوَفْدِ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ، نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الجَنَّةَ، وَسَأَلُوهُ عَنِ الأَشْرِبَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَع: أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ المغنَمِ الخُمُسَ». وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: «عَنِ الحَنْتَمِ، (الحنتم: جرار مدهونة كانت تحمل فيها الخمر. النهاية في غريب الحديث (448/1).) وَالدُّبَّاءِ، (الدباء: القرع، وكانوا ينتبذون فيها فتسرع الشدة في الشراب. النهاية في غريب الحديث (96/1).) وَالنَّقِير، (النقير: أصل النخلة ينقر وسطه ثم ينبذ فيه التمر ويلقى عليه الماء؛ ليصير نبيذًا مُسْكرًا. النهاية في غريب الحديث (104/5)) وَالمزفَّتِ، وَرُبَّمَا قَالَ: المقيَّرِ» وَقَالَ: «احْفَظُوهُنَّ، وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ». (أخرجه البخاري (53)، ومسلم (17)، وأبو داود (3692)، والترمذي (2611)، والنسائي (5031).)
وبوّب البخاري رحمه الله في «صحيحه» بابًا لهذا، فقال: «باب أمور الإيمان، وقول الله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} [البقرة: 177]».
ونؤمن أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، قال صلى الله عليه وسلم: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ -أوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ». (أخرجه البخاري (9)، ومسلم (35) واللفظ له، وأبو داود (4676)، والترمذي (2614)، والنسائي (5005)، وابن ماجه (57).)
ونؤمن أن أهل الإيمان يتفاضلون في أعمالهم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الحَيَا، أَوِ الحَيَاةِ -شَكَّ مَالِكٌ- فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الحبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً؟!». (أخرجه البخاري (22)، ومسلم (184).)
وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ». قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الدِّينَ». (أخرجه البخاري (23)، ومسلم (2390)، والترمذي (2285) وفيه عن بعض أصحاب النبي، والنسائي (5011).)
ونؤمن أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، وقال: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31].
وقال صلى الله عليه وسلم: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ». (أخرجه البخاري (44)، ومسلم (193)، والترمذي (2593).)
وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بن عدي: «إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ، وَشَرَائِعَ، وَحُدُودًا، وَسُنَنًا، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ». (أخرجه البخاري -معلقًا- (1/ 10)، وابن أبي شيبة في المصنف (31084) وفي الإيمان (135)، والخلال في السنة (1162، 1553)، وابن بطة في الإبانة (1166)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1572).)
وكان معمر، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وابن جريج، وسفيان بن عيينة يقولون: «الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص». (الإبانة الكبرى (2/806)، والشريعة، للآجري (2/606).)
وقال الحافظ أبو بكر عبدالله بن الزبير الحُميديُّ: «.. وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل وقول إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بسنة». (أصول السنة للحميدي (ص: 37).)
وقال الخلال: «أخبرني عبدالملك الميموني قال: قال لي يعلى بن عبيد منذ أكثر من ستين سنة: الإيمان قول وعمل، وإن الذي يصوم ويصلي ويفعل الصالحات أكثر إيمانًا من الذي يسرق ويزني». (السنة، لأبي بكر بن الخلال (3/590).)
وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك، فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار -حجازًا، وعراقًا، وشامًا، ويمنًا- فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص». (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 198)، وعقيدة السلف - مقدمة ابن أبي زيد القيرواني لكتابه الرسالة (ص: 29).)
وقال اللالكائي: «الإيمان قول وعمل، وبه قال من الفقهاء: مالك بن أنس، وعبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون، والليث بن سعد، والأوزاعي، وسعيد بن عبدالعزيز، وابن جريج، وسفيان بن عيينة، وفضيل بن عياض، ونافع بن عمر الجمحي، ومحمد بن مسلم الطائفي، ومحمد بن عبدالله ابن عمرو بن عثمان بن عفان، والمثنى بن الصباح، والشافعي، وعبدالله ابن الزبير الحميدي، وأبو إبراهيم المزني، وسفيان الثوري، وشريك، وأبو بكر بن عياش، ووكيع، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ويحيى بن سعيد القطان، وعبدالله بن المبارك، وأبو إسحاق الفزاري، والنضر بن محمد المروزي، والنضر بن شميل، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وأبو عبيد». (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للإمام اللالكائي (4/ 913).)
وقال أبو عبدالله بن أبي زمنين في كتابه «أصول السنة»: «باب في أن الإيمان قول وعمل: ومن قول أهل السنة: إن الإيمان إخلاص لله بالقلوب، وشهادة بالألسنة، وعمل بالجوارح، على نية حسنة، وإصابة السنة». (أصول السنة (ص: 207).)