(المقصود من هذا الباب، إبراز أدلة وجود الرب التي ينكرها الملحد، وسيأتي بعده باب الربوبية؛ حيث المقصود منه: إبراز أدلة إثبات الربوبية المستلزمة لألوهية الله التي يجادل فيها المشرك.)
ونؤمـن بأن الله هـو الأول فليس قبله شيء، قال الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحـديد: 3]، وقال صلى الله عليه وسلم: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء»، (أخرجه البخاري (7418)، والترمذي (3951).) أخرجه البخاري من حديث عمران بن حصين، وفي رواية له -أيضًا: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء». (أخرجه البخاري (3191).) وعرّفنا بنفسه أنه هو الذي خلق السمواتِ والأرضَ، وأنه مالك السموات والأرض، وأنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُور * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} [الحديد: 4- 6].
وأكَّد الحق سبحانه وتعالى أن هذا الكون المشهود شاهدٌ على أنه هو الموجِد الخالق له وحده، ولا خالق معه، قال الله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} [لقمان: 11]؟! ولهذا فقد ذكر من آياته الدالة على أنه هو الموجِد الخالق لهذا الكون دلائلَ كثيرةً، منها: أنه يخـرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي. ومنها: أنه خلق البشر من تراب. ومنها: أنه خلق لنا من أنفسنا أزواجًا. ومنها: اختـلاف الألسنة والألوان في المخلوقات. ومنها: منام العباد بالليل وابتغاؤهم الرزق في النهار. ومنها: أنه يجعل البرق سببًا للخوف والرجاء، وأنه ينزل الماء من السماء. ومنها: أنه هو الذي بدأ الخلق، كما قال جل ثناؤه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُون * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُون * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِين * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُون * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون * وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُون * وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُون * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 19-27].
ومن ذلك -أيضًا: أنه أقام الحجة على الخلق بأنه خلقهم من نفس واحدة، قال تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُون} [الزمر: 6]، فذكر بدء الخلق، وأن الأنعام كلها مخلوقة له سبحانه، ثم أقام الحجة علينا بأنه خلقنا في الأرحام في ظلمات، وأنه لا يستطيع غيره خلق النطفة إنسانًا.
فذكر في الآيات السابقة دليلًا من أعظم الأدلة على وجوده - وهو خلقه للسموات والأرض وما فيهن وما عليهن.
ومن ذلك -أيضًا: أنه أقام الحجة على الخلق بدليل عنايته بهم وبما يجدونه في أنفسهم وذرياتهم، وهو أنه أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا، وتعهدهم حتى تكامل خلقهم وعلْمهم، قال جل من قائل: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [النحل: 78]. وكما أوجد كل شيء وأعدَّه، فقد هدى جميع خلقه لما فيه صلاحهم، قال تعالى مخبرًا عن فرعون أنه قال: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه: 49]، فكان الجواب الإلهي: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50].
ونؤمن أنه سبحانه وتعالى مدَّ الأرض، وجعل الجبال فيها رواسيَ، وأنبت فيها من كل شيء موزون. فالتوازن المشهود فيها خير شـاهد على أنه هـو الموجِد، كما أن إنزال المطر على هيئة مخصوصة لا يستطيع البشـر أن ينزلوه، ولا أن يخزنوا ما نزل من السماء، فهذا شاهد على أن الموجـد هو الله الواحد القهار، قـال تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُون * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِين * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُوم * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِين} [الحجر: 19-22].
ونؤمن بما آمنت به الأنبياء والمرسلون، ونستيقن بما أتوا به من الأدلة والبراهين الدالة عليه سبحانه، كما أخبر الحق أن إبراهيم عليه السلام استدل على النمرود بأن الله يأتي بالشمس من المشرق وغيره لا يستطيع أن يأتي بها من المغرب، قال جل ثناؤه: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258].
كما استدل على قومه بأن الله هو الذي هداه، وأطعمه وسقاه، وإذا مَرِض شفاه، وهو الذي يميته ويحييه، فقال كما أخبر الله عنه: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِين * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِين * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِين} [الشعراء: 78-81]، وقال مخبرًا عن موسى عليه السلام أنه حاج فرعون قائلًا له: إن ربه هو: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، وجاء في التنزيل أن الله سبَّح نفسه عن كل نقص، وعرَّفنا بنفسه، فقال سبحانه وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1-3].
واحتجَّ سبحانه وتعالى على أنه هو الخالق الموجِد لهذا الكون ولا خالق غيره - بأنه هو الذي أنبت الحدائق البهيجة، وأن البشر لا يستطيعون أن ينبتوا شجرها. كما احتج على ذلك بأنه جعل الأرض مستقرة، وجعل فيها أنهارًا وجبالًا راسياتٍ، وجعل بين البحرين حاجزًا؛ لئلا يختلط هذا مع هذا. وأنه هو وحده الذي يجيب المضطرَّ إذا دعاه - ولو كان غير مؤمن - وأنه هو الذي يهدي الناس في ظلمات البرِّ والبحر، وأنه هو الذي يرسل الرياح مبشرات بين يدي الغيث، وأنه هو الذي يرزقنا، لا رازق غيره، ولا رب سواه، ولا خالق غيره، قال الحق سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُون * أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُون * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُون * أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} [النمل: 60 -64].
وقال جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون * وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون} [الرعد: ٣، 4]. فأثبت الحق سبحانه وتعالى أنه هو وحده مَنْ مدّ الأرض، وخلق من كل الأشجار والثمرات زوجين اثنين، وأنه هو وحده الذي يغشي الليلَ النهارَ. واحتج على ذلك بأن القِطَع المتجاورة من الأرض تخرج ثمارًا متشابهة وغير متشابهة، وهي تسقى بماء واحد، فسبحان الله الذي لا رب غيره، ولا خالق سواه.
وبيَّن أن الجبال -مع صلابتها- فيها من بديع الخلق ما يدل على إبداع الخالق، فقال جل من قائل: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُود} [فاطر: 27].
ومن ذلك ما بينه تعالى لنا من أنه هو الذي خلق هذه العوالم كلَّها، وسخّرها للإنسان، ومن ذلك تسيير الفلك في البحر، قال الحق جل ثناؤه: {اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون * وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [الجاثية: ١٢، ١٣].
ودلّنا سبحانه وتعالى على وجوده بأن جعل لنا من هذه الأنعام مراكبَ وملابسَ ومآكلَ ومشاربَ، وأنه يمسك الطير في جو السماء، قال الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون * وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِين * وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُون} [النحل: ٧٩-81]. فكل هذه دلائلُ شاهدةٌ على وجـوده وربوبيته، فمن الذي أوجدها إلا هو، سبحانه؟! فلا موجد غيره، ولا رب سواه.
وأقام لنا شاهدًا عظيمًا يتكرر في كل يوم، يشهد على وجوده وربوبيته سبحانه وتعالى؛ وهو: أنه هو الذي فلق الإصباح، وفلق الحبّ والنوى، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُون * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم} [الأنعام: ٩٥، ٩٦].
وكما جعل الشمس والقمر آيتين، جعل الليل والنهار آيتين دالتين على وجوده وربوبيته، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12].
وبين الله تعالى أن جعْلَه البحر عذبًا أو أجاجًا، ويخرج منهما لحما طريًّا وحليًّا - دليل على وجوده، قال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14]، وقال الحق جل شأنه: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} [الفرقان: 53].
وقد بيَّن الله تعالى أن العقول السوية تدرك أنه لا يمكن أن يُوجد هذا الكون بلا موجد، فقال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُون} [المؤمنون: ٨٠]، وقال جل من قائل: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُم * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُون} [الأنبياء: ٦٦، ٦٧]. فهل رأيت أكبر من هذه الدلائل الدالة على وجوده وربوبيته، سبحانه وتعالى؟!
وأنكر الله على من نسب الخلق إلى غيره، وسألهم سؤال توبيخ وإنكار: هل خُلقوا من عدم؟ أم هم الذين خلقوا أنفسهم، وخلقوا السموات والأرض؟ أم هل عندهم خزائن الله؟ أم هل هم المسيطرون؟ قال الله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُون * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُون} [الطور: ٣٥-٣٧]. وهذه الآية من أعظم الآيات الدالة على وجود الخالق؛ ولهذا ثبت أن جبير بن مطعم قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُون * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُون} قَالَ: «كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ»، (أخرجه البخاري (4854)، ومسلم (463)، وأبو داود (811)، والنسائي (987)، وابن ماجه (832).) وكان سماع جبير رضي الله عنه لهذه الآية قبل أن يسلم، فتبين أنهم مخلوقون مربوبون مقهورون، فسبحان الله عما يصفون.
وقال الحق جل شأنه: {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51]، فإذا جهل الإنسان خلق السموات وجهل خلق نفسه، فكيف ينكر خالقه وموجده؟!
ونؤمن أن الله لم يخلق خلقه عبثًا؛ بل خلقًا محكمًا لغاية عظيمة، قال الله جل شأنه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِين * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِين} [الأنبياء: ١٦، ١٧].
وردّ على النصارى زعمهم أن المسيح إله خالق، ورب مدبِّر لهذا الكون، وبين أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه هو الذي يصور البشر في الأرحام. وممن خلقه الله وصوره في الرحم: المسيح عليه السلام ، فقال المـولى جل شـأنه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [آل عمـران: ٥، ٦] إلى غير ذلك مما ورد كثيرًا في القرآن الكريم -كما في «سورة الأنعام» و«النحل» وغيرهما- من الدلائل التي لا تحصى، والشواهد التي لا تحصر، وكلها دالة على وجوده وربوبيته.