ونؤمن بأن الله واحد في صفاته ونعوت كماله وجلاله سبحانه، وأن الله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى تواترت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، وتشهد له بذلك العقول الكاملة، وتسلِّم له بذلك الفِطَر السليمة، وأجمع على ذلك علماء أمة الإسلام، بل كل الرسالات الإلهية جاءت ببيان صفات الله وأسمائه وأفعاله سبحانه وتعالى. وعاب الله على المشـركين عبادة الأصنام؛ لأنها مخلوقة مثلهم، بل هي أقل منهم وأنقص، فهي لا تبصر ولا تسمع، بل ليس لها أرجل تمشي بها، ولا أيدٍ تبطش بها، قال الحق سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُون} [الأعراف: 194، 195]. وقال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِين} [الأعراف: 148].
ونؤمن أنه كما وصف نفسه، وكما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو سبحانه ليس كمثله شيء، وهـو السـميع البصير، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [الشورى: 11]. فنثبت لله ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تعطيل ولا تمثيل، ولا تكييف ولا تحريف، ونعلم علم اليقين أن ربنا متصف بصفاته قبل أن يَخْلق الخلق، وأنه على غاية الكمال والجلال والجمال منذ الأزل إلى الأبد؛ إذ هو الأول والآخر، فهو أول ليس قبله شيء، وآخر ليس بعده شيء، فهو الأول بأسمائه وصفاته كمالًا ومجدًا، وهو الآخر بأسمائه وصفاته كمالًا ومجدًا.
ونؤمن أنه سبحانه كما لا يحيط الخلق به علمًا، فكذلك لا تدركه أبصارهم، قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، وقال المولى عز شأنه: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الأنعام: 103]. قال الإمام ابن قتيبة رحمه الله: «الواجب علينا أن ننتهي في صفات الله حيث انتهى في صفته، أو حيث انتهى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نزيل اللفظ عما تعرفه العرب وتضعه عليه، ونمسك عما سوى ذلك». (الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية، لابن قتيبة (ص: 44).)
ونؤمن أن من صفات الله صفاتٍ ملازمةً لذاته، كالحياة، والعلم، والسمع، والبصر، واليد، والأصابع، ومنها صفات متعلقة بمشيئته، كالغضب، والرضى، والنزول. ونؤمن أنه الفعال لما يريد، فهو يفعل متى شاء ما يشاء كيفما يشاء، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، لا رادّ لأمره، ولا معقّب على قضائه وحكمه.
ونؤمن أن صفات الله منها ما ورد مطلقًا، فنصف الله به على إطلاقه، كالسمع، والحياة، والبصر، وغيرها، ومنها ما ورد مقيدًا، فيبقى على تقييده، كوصفه سبحانه وتعالى بأنه يمكر بأعدائه إذا مكروا، وينسى أعداءه إذا نسوه.
ونؤمن أن بعض الصفات ورد وصف الله بها على وجه واحد، كصفة الحياة، والقيومية، والعظمة، فترد في القرآن أو السنة على وجه واحد. ونجد بعض الصفات ورد الخبر عنها في القرآن الكريم أو السنة على أوجه متعددة، كصفة الكلام، والعلو، واليد، ورؤية المؤمنين لربهم في عرصات القيامة وفي الجنة. (وقد حرصنا إذا ورد الخبر عن الصفة على أوجه متعددة أن نذكر أكثر من وجه في إثباتها، وما ورد الخبر عنها على وجه واحد أن نكتفي بذكر دليل أو دليلين ورد فيهما ذكر هذه الصفة أو تلك.)
ومن صفاته سبحانه وتعالى: العلم والسمع، قال تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [الأنبياء: 4].
ومن صفاته: البصر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} [غافر: 20]، وعن أبي يونس سليم بن جبير مولى أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {سميعا بصيرًا} قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضَعُ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا، وَيَضَعُ إِصْبَعَيْهِ، قَالَ ابْنُ يُونُسَ: قَالَ الْمُقْرِئُ: يَعْنِي: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} ، يَعْنِي أَنَّ لِلَّهِ سَمْعًا وَبَصَرًا». (أخرجه أبو داود (4728)، وحفص بن عمر في جزء قراءات النبي (33)، وابن خزيمة في التوحيد (49)، وابن أبي حاتم في التفسير (5524).)
ومن صفاته سبحانه وتعالى: العين، قال الله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، وقال جل ثناؤه: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]، وقال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وعن نافع عن عبدالله رضي الله عنه قال: ذُكر الدجال عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَيْنِهِ- وَإِنَّ المسيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ العَيْنِ اليُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ». (أخرجه البخاري (7407)، ومسلم (169)، وأبو داود (4757)، والترمذي (2241).)
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الحيـاة والقيوميـة، قال تعالى: {اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [آل عمران: 2].
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الكلام، وهو موصوف بالكلام قبل أن يَخْلق الخلق ويكلمهم، وكلام ربنا متعلق بمشيئته، فمتى شاء تكلم، وقد ورد الخبر عن صفة الكلام لله في القرآن على أوجه متعددة، فكلُّ ما أخبر الله به عن نفسه بأنه يأمر أو ينهى فهو دالٌّ على الكلام، كقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [النحل: 90]. وكل ما أخبر الله به عن نفسه أنه قال، أو يقول، فهو دال على الكلام، كقوله عز شأنه: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]. وكل ما ورد الخبر فيه عن الإنباء مضافًا إلى الله فهو دال على إثبات صفة الكلام لله رب العالمين، قال الحق: {قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِير} [التحريم: 3].
وكل ما ورد من النداء أو المناجاة مضافًا إلى الله فهو دال على صفة الكلام لله رب العالمين، كما في قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52]. وكل ما ورد من القول مضافًا إلى الله، أو ورد الكلام في القرآن موصوفًا به الله، فهو دليل على صفة الكلام. وهذا أكثر من أن يحصى، ومن ذلك أنه تعالى كلم الملائكة، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ} [البقرة: 30]، وكلم آدم: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35]، وكلم موسى عليه السلام : {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} [الأعراف: 144].
وكلام ربنا منه ما يكون مناداة، كما نادى إبراهيـم الخليل عليه السلام ، قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيم} [الصافات: 104]، ومنه ما يكون مناجاة كما ناجى ربنا موسى عليه السلام : {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52]، قال ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما في هذه الآية: «حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ»، (أخرجه ابن أبي شيبة (32506)، وهناد في الزهد (149)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1231)، والطبري في التفسير (15/559)، والحاكم (3472).) وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قَالَ: «أُدْخِلَ فِي السَّمَاءِ فَكُلِّمَ». (تفسير ابن كثير (5/238)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور (5/515).) وكلام ربنا تسمعه الملائكة كما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير} [سبأ: 23]، وعن مسروق عن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ، سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ لِلسَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا، فَيُصْعَقُونَ، فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيلُ، حَتَّى إِذَا جَاءَهُمْ جِبْرِيلُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. قَالَ: فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيلُ، مَاذَا قَالَ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: الْحَقَّ، فَيَقُولُونَ: الْحَقَّ، الْحَقَّ». (أخرجه أبو داود (4738)، وعثمان بن سعيد الدارمي في الرد على الجهمية (158)، وعبد الله بن أحمد في السنة (536)، ومحمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (217).)
ويكلم الخلائق يوم القيامة كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، وَلَا حِجَابٌ يَحْجُبُهُ». (أخرجه البخاري (7443)، ومسلم (1016)، والترمذي(2415)، وابن ماجه (185).)
وتسمع الخلائق يوم القيامة كلام الله، كما في الحديث عن عبدالله بن أنيس رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يَحْشُرُ اللَّهُ العِبَادَ، فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الملكُ، أَنَا الدَّيَّانُ». (أخرجه البخاري معلقًا (9/ 141)، وفي الأدب المفرد (970)، وفي خلق أفعال العباد (90)، وأحمد (16042).)
ونؤمن أن الله سبحانه وتعالى قد احتجب عن خلقه، فلا يرونه في الدنيا، ويكلم من شاء من ملائكته ورسله عليهم السلام من وراء حجاب، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيم} [الشورى: 51].
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ عز وجل لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ». (أخرجه مسلم (179)، وابن ماجه (195).)
وكلام ربنا يوصف بأن بعضه أحدث من بعض، قال الحق جل شأنه: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون} [الأنبياء: 2]، وبعضه أفضل من بعض، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} أَحَدٌ، يُرَدِّدُهَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ». (أخرجه البخاري (5013)، وأبو داود (1461)، والنسائي (995).)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ». (أخرجه مسلم (806)، والنسائي (912).)
والقرآن وكل الكتب الإلهية المنزلة على رسل الله عليهم السلام، كصحف إبراهيم وموسى عليهما السلام، والتوراة، والإنجيل، والزبور- كلها كلام الله، وكلها تكلم الله بها، وسمعها جبريل عليه السلام منه بلا واسطة، وأنزل الله التوراة مكتوبة على الألواح، وجبريل تنزّل بالوحي على أنبياء الله ورسله عليهم السلام، قال الله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِين} [الشعراء: 193، 194]، وقـال المولى عز شأنه: {فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون} [الأعراف: 158]. وكلام الله وكلماته غير مخلوقة؛ ولذا استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمات الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ»، (أخرجه مسلم (2708)، والترمذي (3437)، وابن ماجه (3547).) ولو كانت كلمات الله مخلوقة لما استعاذ بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكلام الله غير خلقه، ألا ترى «أن الله قد فصل بين قوله وبين خلقه، ولم يسمّه قولًا، فقال: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فلما قال: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ} لم يبق شيء مخلوق إلا كان داخلًا في ذلك، ثم ذكر ما ليس بخلق فقال: {وَالأَمْرُ} فأمره هو قوله، تبارك الله رب العالمين أن يكون قوله خلقًا». (ينظر: الرد على الجهمية، للإمام أحمد (ص: 224).)
ونفرق بين كلمات الله الكونية المذكورة في مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِين} [الأنعام: 34]، وقوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]، وكلامه الشرعي الوارد في مثل قوله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [الأنعام: 115]، وقوله جل ذكره: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124].
قال الإمام الدارمي: «فلا ينكر كلام الله عز وجل إلا من يريد إبطال ما أنزل الله عز وجل، وكيف يعجز عن الكلام من علّم العباد الكلام، وأنطق الأنام؟!». (الرد على الجهمية، للدارمي (ص: 155).)
ومن صفاته سبحانه وتعالى: العزة، قال الحق: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون} [الصافات: 180]، وقال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10].
ومن صفاته سبحانه وتعالى: القهر، قال تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} [ص: 65].
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: «سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ». (أخرجه أبو داود (873)، والنسائي (1049)، وأحمد (23980)، والترمذي في الشمائل (314)، والبزار (2750).) وقال صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ». (أخرجه أبو داود (4090)، وابن ماجه (4174)، والحميدي (1183)، وابن أبي شيبة (27111)، وأحمد (7382).)
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الإرادة والمشيئة، قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله: {وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِين} [الأنفال: 7]، وقوله: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [التكوير: 29].
ومن صفاته سبحانه وتعالى: القدرة، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِير} [الشورى: 29]، وقوله: {إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة: 20].
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الرحمة، قال الرحيم الرحمن سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، وقال سبحانه وتعالى: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، فهذه الرحمة صفة من صفاته، وهي مضافة إلى الله إضافة الصفة إلى الموصوف. وقد تأتي الرحمة في الكتاب والسنة مضافة إلى الله من إضافة المخلوق إلى خالقه، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} [الفرقان: 48]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ»، (أخرجه البخاري (6469)، ومسلم (2752)، والترمذي (3541)، وابن ماجه (4293).) فهذه رحمة مخلوقة أضيفت إلى الله من إضافة المخلوق إلى خالقه.
ومن صفاته سبحانه وتعالى: العلو، وهو علو القهر، وعلو القَدْر، وعلو الذات، فالثلاثة كلها صفته، وهي دالة على كماله. وقد دل القرآن العظيم والسنة النبوية الشريفة والعقل والفطرة على العلو بأوجه متعددة، فكل ما أخبر الله به أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم أنه العلي أو الأعلى، أو يشار إليه بأنه في العلو، فهو دال على علوه، وكل خبر فيـه تَنَزّل منه تعالى كنزول الوحي، وتنزل الأمر، وأنـه يجيء ويأتي يوم القيامة لفصل القضاء، أو أنه ينزل في كل ليلة وفي عشية عرفة، وتنزل الملائكة، فهو دال على علوه، وكذلك كل خبر فيه أنه في السماء، أو أنه فوق السـماء، أو أنه فـوق العرش، أو أنه استوى على العرش - فهو دال على علوه، وكذلك كل ما فيه صعـود إليه سبحانه ونحوه فهو دال على علوه.
ومن ذلك: أن الملائكة تخاف ربها من فوقها، وأنها تعرج إليه، وأن الأعمال ترفع إليه، وأنه يصعد إليه، وأن الله رفع عيسى عليه السلام إليه، وأسرى بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعرج به إلى السماء. كل ذلك دال على علوه، بل إن الأدلة الدالة على أن الله في العلو أنواع كثيرة، وتحت كل نوع أفراد كثيرة لا تحصى إلا بالكلفة.
ومن هذه الأدلة: قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم} [الشورى: 4]، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير} [الحج: 62]، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وقول الحق سـبحانه: {وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} [الأنعام: 155]، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} [يوسف: 2]، وقوله سـبحانه: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [النحل: 50]، وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} [آل عمران: 55]، وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة} [المعارج: 4]، وقوله جل ثناؤه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، وقـول الحق سبحانه: {بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158]. وقول ربنا سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [الإسراء: 1].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ: غَلَبَتْ، أَوْ قَالَ: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ»، (أخرجه البخاري (7553)، ومسلم (2751)، والترمذي (3543)، وابن ماجه (189).) وعن مُعَاوِيَة بن الحكم السّلمِيّ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟! فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللهِ، مَا كَهَرَنِي، وَلَا ضَرَبَنِي، وَلَا شَتَمَنِي. قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ»، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وَقَدْ جَاءَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ، قَالَ: «فَلَا تَأْتِهِمْ»، قَالَ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ، قَالَ: «ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ، فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ»، -قَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ: فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ- قَالَ: قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ، قَالَ: «كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ»، قَالَ: وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: «ائْتِنِي بِهَا»، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: «أَيْنَ اللهُ؟» قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: «مَنْ أَنَا؟» قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: «أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ». (أخرجه مسلم (537)، وأبو داود (930)، والنسائي (1218).)
وعن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ وَصَلَاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»، (أخرجه البخاري (555)، ومسلم (632)، والنسائي (485).) وفي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قَالَ: «كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَخَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الماء»، (أخرجه الترمذي (3109)، وابن ماجه (182)، والطيالسي (1189)، وأحمد (16188) وابن أبي عاصم في السنة (625).) هذه وغيرها كثير من الآيات والأحاديث الدالة على العلو.
والأدلة الدالة على العلو أكثر من أن تحصر، فقد أجمع علماء الإسلام على إثباته، كما دل عليه العقل والفِطَرُ السليمة، قال الإمام ابن بطة رحمه الله: «وأجمع المسلمون من الصحابة والتابعين وجميع أهل العلم من المؤمنين أن الله تبارك وتعالى على عرشه، فوق سمواته، بائن من خلقه، وعلمه محيط بجميع خلقه». (الإبانة الكبرى، لابن بطة (7/136).)
ونقل الدارمي رحمه الله: قول ابن المبارك لما سئل: «بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق العرش، فوق السماء السابعة على العرش، بائن من خلقه». (الرد على الجهمية، للدارمي (ص: 98).)
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الاستواء على العرش، وقد ذكره الله في سبعة مواضع من كتابه، منها: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [الأعراف: 54]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ: غَلَبَتْ، أَوْ قَالَ: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ». (أخرجه البخاري (7553)، ومسلم (2751)، والترمذي (3543)، وابن ماجه (189).) وأخرج اللالكائي عن ابن عيينة قال: سئل ربيعة عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]: كيف استوى؟ قال: «الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق». (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/442)، والعرش، للذهبي (2/213).) ونُقِلَ مثل هذا القول عن إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمه الله. (أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/ 325، 326)، والبيهقي في الأسماء والصفات (304/2)، وابن عبدالبر في التمهيد (7/ 138)، وقال الذهبي رحمه الله: «وقد أخذ العلماء من قول الإمام مالك: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة»، قاعدة ساروا عليها في هذا الباب». ينظر: العلو، للذهبي (1/117).)
ومن صفاته سبحانه وتعالى: المحبة، قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، قال الإمام الدارمي رحمه الله: «فجمع بين الحبين: حب الخالق، وحب المخلوق متقارنين، ثم فرّق بين ما يُحَبَّ وما لا يحب؛ ليعلم خلقه أنهما متضادان غير متفقين، فقال: {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 148]، و {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الأنعام: 141]». (نقض الدارمي (2/ 865).)
وقال: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} [البقرة: 222]، وعن سهل ابن سعد رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ». (أخرجه البخاري (3009)، ومسلم (2406)، وأبو داود (3661).) وقال صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ». (أخرجه البخاري (15)، ومسلم (44)، والنسائي (5013)، وابن ماجه (67).)
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الرضى، قال الحق جل شأنه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [التوبة: 100]، وعن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: «اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ». (أخرجه مسلم (486)، وأبو داود (879)، والترمذي (3493)، والنسائي (169)، وابن ماجه (3841).)
ومن صفاته سبحانه وتعالى: كراهيته لأعدائه؛ ذلك لأنهم كرهوا رضوانه، وكرهوا ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم} [محمد: 28]، وقوله: {وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِين} [التوبة: 46]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللَّهُ: إِذَا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِي كَرِهْتُ لِقَاءَهُ». (أخرجه البخاري (7504)، والنسائي (1835).)
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الغضب على أعدائه، قـال الله سبحانه وتعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} [الفتح: 6]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَبِيلِ اللَّهِ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم». (أخرجه البخاري (4074).)
ومن صفاته سبحانه وتعالى: المقت، وهو مقته للكافرين، قال الحق جل شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [غافر: 10].
ومن صفاته سبحانه وتعالى: مكره بأعدائه الذين يمكرون بأوليائه، قال المولى جل شأنه: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِين} [النمل: 50، 51].
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الأسف، وهو أشد الغضب، قال الحق جل في علاه: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِين} [الزخرف: 55]، قال قتادة والسدي: «{فَلَمَّا آسَفُونَا} أي: أغضبونا». (تفسير الطبري (21/622).)
ومن صفاته سبحانه وتعالى: مخادعة من يخادعه، فالله يخادع المنافقين الذين يخادعونه، قال الله عز شأنه وتعالى مجده وسلطانه: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُون} [البقرة: 9]، وقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142].
وبيَّن الحق أنه ينسى أعداءه كما نسوا لقاءه، قال الله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا} [الأعراف: 51].
ومن صفاته سبحانه وتعالى: أنه يستهزئ بمن يهزأ به سبحانه وتعالى، قال الحق جل شأنه: {اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} [البقرة: 15]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «يسخر بهم للنقمة منهم». (تفسير الطبري (1/304)، وابن أبي حاتم في التفسير (143).)
ومن صفاته سبحانه وتعالى: الضحك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلَانِ الجَنَّةَ»، (أخرجه البخاري (2826)، ومسلم (1890)، والنسائي (3166)، وابن ماجه (191).) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الطويل في رؤية الله تعالى يوم القيامة، وذكر فيه قصة آخر أهل الجنة دخولًا: «....فَيَقُولُ اللَّهُ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ، أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ العُهُودَ وَالمِيثَاقَ، أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ، فَيَضْحَكُ اللَّهُ عز وجل مِنْهُ، ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ...». (أخرجه البخاري(806).)
قال وكيع: «إذا سئلتم: هل يضحك ربنا؟ فقولوا: كذلك سمعنا». (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/477).)
وبوّب الحافظ ابن بطة رحمه الله في كتابه «الإبانة»: «باب الإيمان بأن الله عز وجل يضحك» وقال فيه: «اعلموا -رحمكم الله- أن من صفات المؤمنين من أهل الحق تصديق الآثار الصحيحة، وتلقيها بالقبول، وترك الاعتراض عليها بالقياس، ومواضعة القول بالآراء والأهواء؛ فإن الإيمان تصديق، والمؤمن هو المصدق، قال الله عز وجل: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. فمن علامات المؤمنين: أن يصفوا الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم مما نقلته العلماء، ورواه الثقات من أهل النقل الذين هم الحجة فيما رووه من الحلال والحرام والسنن والآثار، ولا يقال فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف؟ ولا: لِمَ؟ بل يتبعون ولا يبتدعون، ويسلّمون ولا يعارضون، ويتيقنون ولا يشكّون ولا يرتابون، فكان مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أهل العدالة، ومن يلزم المؤمنين قبول روايته وترك مخالفته: أن الله تعالى يضحك. فلا ينكر ذلك ولا يجحده إلا مبتدع مذموم الحال عند العلماء». (الإبانة الكبرى، لابن بطة (7/91).)
ومن صفاته سبحانه وتعالى: المجيء والإتيان يوم القيامة لفصل القضاء بين الناس، قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158]، وقال تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الامُور} [البقرة: 210]. وعن أبي هـريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئًا فليتبعه...» وساق الحديث إلى قوله: «وتبقى هذه الأمة، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله عز وجل فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه». (أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182)، وأبو داود (4730)، والترمذي (2554)، وابن ماجه (178).)
وعن أبي العالية في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ} [البقرة: 210] يقول: «الملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والله عز وجل يجيء فيما يشاء». (الأسماء والصفات، للبيهقي (2/370).)
ومن صفاته سبحانه وتعالى: أنه ينزل إلى السماء الدنيا نزولًا حقيقيًّا يليق بجلاله وعظمته، وهو ليس كنزول المخلوقين، بل هو كسائر صفاته التي نؤمن بها ونعلمها، ولا نتمحل في تكييفها، أو نتكلف في ردها؛ بل نؤمن بها كما أخبرنا بها رسولنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فقال: «إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ، أَوْ ثُلُثَاهُ، يَنْزِلُ اللهُ تبارك وتعالى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ». (أخرجه مسلم (758).)
وبوّب إمام الأئمة محمد بن خزيمة رحمه الله في كتابه «التوحيد» بقوله: «باب أخبار ثابتة السند، صحيحة القوام رواها علماء الحجاز والعراق عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا كل ليلة، نشهد شهادة مقرٍّ بلسانه، مصدق بقلبه، مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الرب، من غير أن نصف الكيفية؛ لأن نبينا المصطفى لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى سماء الدنيا، وأعلمنا أنه ينزل، والله جل وعلا لم يترك ولا نبيُّه عليه السلام بيانَ ما بالمسلمين الحاجةُ إليه من أمر دينهم، فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية النزول». (التوحيد، لابن خزيمة (1/289).)
وبوّب الحافظ ابن بطة رحمه الله في كتابه «الإبانة» بقوله: «باب الإيمان والتصديق بأن الله تعالى ينزل في كل ليلة إلى سماء الدنيا من غير زوال ولا كيف. ثم قال رحمه الله: «اعلموا -رحمكم الله- أن الله قد فرض على عباده المؤمنين طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقبول ما قاله وجاء به، والإيمان بكل ما صحت به عنه الأخبار، والتسليم لذلك بترك الاعتراض فيها وضرب الأمثال والمقاييس إلى قول: لِمَ؟ ولا كيف؟... وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» في حديث طويل سنذكره -إن شاء الله- بتمامه، رواه الأئمة المحدثون الثقات والمثبتون والفقهاء الورعون، الذين نقلوا إلينا شريعة الإسلام ودعائمه، مثل الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وما يتلو ذلك من سائر الأحكام من النكاح، والطلاق، والبيوع، والحلال والحرام». (الإبانة الكبرى، لابن بطة (7/ 201).) (والحديث أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758)، وأبو داود (1315)، والترمذي (446)، وابن ماجه (1366).)
ونؤمن بصفة المعية لله رب العالمين، وأن الله مع خلقه بعلمه وإحاطته ومشيئته، وقد دل على إثباتها لله تعالى الكتاب والسنة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [المجادلة: 7].
وقال صلى الله عليه وسلم: «ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ». (أخرجه البخاري (4205)، ومسلم (2704)، وأبو داود (1526)، والترمذي (3461).)
وهذه المعية نوعان:
معية خاصة: وهذه تكون لرسل الله عليهم السلام ولأوليائه، ومقتضاها: النصر والتأييد، قال تعالى: {قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].
ومعية عامة؛ أي: أن الله مع الخلق كلهم، مؤمنهم وكافرهم، قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4]، ومعنى هذه المعية: العلم والإحاطة والقدرة والسلطان.
وهذه المعية لا تنافي علو الله تعالى؛ لأن معناها - كما سبق بإجماع أهل العلم: العلم والإحاطة؛ أي: أن الله تعالى مع خلقه بعلمه وإحاطته.
ومن صفاته تعالى: العَجَب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ». (أخرجه البخاري (3010)، وأبو داود (2677).) وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يَعْجَبُ رَبُّكُمْ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ شَظِيَّةٍ بِجَبَلٍ، يُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ، وَيُصَلِّي، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ، وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ، يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ». (أخرجه أبو داود (1203)، والنسائي (666)، وأحمد (17312)، وابن أبي عاصم في السنة (584)، والروياني (232).)
ونؤمن برؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، كما دل على ذلك الكتاب، وتواترت به الأخبار عن رسولنا صلى الله عليه وسلم فيما بشَّر به المؤمنين أنهم يرون ربهم عِيانًا يوم القيامة -وهذا - والله - أعظم نعيم أهل الجنة- قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة} [القيامة: 22، 23]، وقال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وقوله جل شأنه: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُون} [المطففين: 15]. وقد سئل الإمام مالك فقيل له: يا أبا عبدالله: هل يرى المؤمنون ربهم يوم القيامة؟ فقال: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعيّر الله الكفار بالحجاب فقال: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُون} . (شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/468).)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: «هَلْ تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْوًا؟»، قُلْنَا: لَا، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ لَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ، إِلَّا كَمَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا»، ثُمَّ قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ: لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَيَذْهَبُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ، وَأَصْحَابُ الأَوْثَانِ مَعَ أَوْثَانِهِمْ، وَأَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِم، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلَا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ المسِيحَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ، وَلَا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَحْبِسُكُمْ، وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ، وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ اليَوْمَ، وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي: لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا، قَالَ: فَيَأْتِيهِمُ الجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَلَا يُكَلِّمُهُ إِلَّا الأَنْبِيَاءُ، فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِن». (أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183).)
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ». (أخرجه البخاري (554)، ومسلم (633)، وأبو داود (4729)، والترمذي (2551)، وابن ماجه (177).)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: «هَلْ تُمَارُونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟» قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ القَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَدْعُوهُمْ، فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا الرُّسُلُ، وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ». (أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182)، وأبو داود (4730)، والترمذي (2554)، وابن ماجه (178).)
فأحاديث الرؤية -بحمد الله- متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: ١٤٣]، نفيُ الرؤية؛ لأن هذا في الدنيا، وهو مماثل لقوله صلى الله عليه وسلم في جوابه لأبي ذر رضي الله عنه، حينما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ»، (أخرجه مسلم (178)، والترمذي (3282).) فلم ير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ربه ليلة أسري به؛ وقد أخبرنا تعالى عما أكرمه به من الآيات ليلة أسري به، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [الإسراء: 1]. ولم يذكر تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، ولو رأى ربه لذكر الله ذلك من باب الامتنان عليه صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الأنعام: 103]، لا يدل على نفي الرؤيـة؛ لأن الإدراك معنًى زائدٌ على الرؤية. وأيضًا: فإن الآيات السابقة على هذه الآية جاءت في سـياق توكيد التوحيد ونفي الولد، وليست في أخبار المعاد حتى تكون الآية متعلقة بالرؤية.
قال الدارمي رحمه الله: «فهذه الأحاديث كلها -وأكثر منها- قد رويت في الرؤية، على تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصرِ من مشايخنا، ولم يزل المسلمون قديمًا وحديثًا يروونها ويؤمنون بها، لا يستنكرونها ولا ينكرونها، ومن أنكرها من أهل الزيغ نسبوه إلى الضلال، بل كان من أكبر رجائهم وأجزل ثواب الله في أنفسهم النظرُ إلى وجه خالقهم حتى ما يعدلون به شيئًا من نعيم الجنة». (الرد على الجهمية، للدارمي (ص: 122).)
وقال إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله: «وأما الصواب من القول في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل يوم القيامة -وهو ديننا الذي ندين الله به، وأدركنا عليه أهل السنة والجماعة- فهو: أن أهل الجنة يرونه على ما صحت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم». (صريح السنة، للطبري (ص: 20).)
قال ابن بطة رحمه الله: «وإنما أرادوا بجحد رؤيتـه إبطال ربوبيته؛ لأنهم متى أقروا برؤيته أقروا بربوبيته؛ لأن الله تعالى جعل ثواب من صدق به بالغيب إيمانًا أن يراه هذا عِيانًا». (الإبانة الكبرى، لابن بطة (2/ 7).)
وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية وغير ذلك، فقالوا: «أمْضِها بلا كيف». (الصفات، للدارقطني (ص: 75).)
ونثبت لله وجهًا يليق بجلاله وعظمته، كما قال تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} [القصص: 88]، وقال جل شأنه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام} [الرحمن: 27]. وقال عز من قائل: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد: 22]، وقال: {إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 20]، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ القَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ». (أخرجه البخاري (4878)، ومسلم (180)، والترمذي (2528)، وابن ماجه (186).)
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ عز وجل لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وعمل النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ». (أخرجه مسلم (179)، وابن ماجه (195، 196).)
وقال أبو عثمان الصابوني رحمه الله: «وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصِّحاح من السمع، والبصر، والعين، والوجه، والعلم، والقوة، والقدرة، والعزة، والعظمة، والإرادة، والمشيئة، والقول، والكلام، والرضى، والسخط، والحياة، واليقظة، والفرح، والضحك، وغيرها من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير زيادة عليه، ولا إضافة إليه، ولا تكييف له، ولا تشبيه، ولا تحريف، ولا تبديل، ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب، وتضعه عليه بتأويل منكر، ويجرونه على الظاهر، ويَكِلُون علمه إلى الله تعالى، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله، كما أخبر الله عن الراسخين في العلم أنهم يقولونه في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب} [آل عمران: 7]». (عقيدة السلف أصحاب الحديث، لأبي عثمان الصابوني (ص: 16، 17).)
ومن صفاته سبحانه وتعالى: صفة اليد، وقد ورد الخبر بها في القرآن والسنة على أوجه متعددة، فتارة ذكرت مثناة، وتارة أخبر تعالى أنه يقبضها ويبسطها، وأنه تعالى يقبض الأرض بيده، ويطوي السموات بيمينه سبحانه وتعالى، وتارة موصوفة بأنها ذات أصابع، وكل ذلك يثبت أن اليد التي ورد وصفها بالقرآن والسنة يد حقيقية تليق بجلاله، لا نتكلف في تأويلها أو تشبيهها أو تحريف الآيات والأحاديث الدالة عليها، قال الحق جل شأنه: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِين} [ص: 75]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وقال الحق عز شأنه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} [الزمر: 67].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عليهما السلام عِنْدَ رَبِّهِمَا، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ»، (أخرجه البخاري (6614)، ومسلم (2652)، وأبو داود (4701)، والترمذي (2134)، وابن ماجه (80).) وفي رواية: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ». (أخرجه البخاري (6614)، ومسلم (2652)، وأبو داود (4701)، والترمذي (2134)، وابن ماجه (80).)
وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عز وجل، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا». (أخرجه مسلم (1827)، والنسائي (5379).)
وعن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا». (أخرجه مسلم (2759).)
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء، وَبِيَدِهِ المِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ». (أخرجه البخاري (4684)، ومسلم (993)، والترمذي (3045)، وابن ماجه (197).)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، عَطَسَ، فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِهِ...» إلى أن قال: «فَقَالَ اللَّهُ لَهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، قَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ، ثُمَّ بَسَطَهَا، فَإِذَا فِيهَا آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ». (أخرجه الترمذي (3368)، وابن أبي عاصم في السنة (596)، والبزار (8194)، والنسائي في الكبرى (9977).)
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ». (أخرجه مسلم (2654).)
وأخرج عبدالله ابن الإمام أحمد في كتابه «السنة»، بسنده عن وكيع قال: «نسلّم هذه الأحاديث كما جاءت، ولا نقول: كيف كذا؟ ولا: لم كذا؟ يعني مثل حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «إن الله عز وجل يحمل السموات على أصبع، والجبال على إصبع»، وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ». (أخرجه مسلم (2654).) ونحوها من الأحاديث. (السنة، لعبدالله بن أحمد (1/267).)
وقال شريك رحمه الله جوابًا لمن سأله عمن ينكر بعض أحاديث الصفات: «إن الذين جاؤوا بهذه الأحاديث هم الذين جاؤوا بالقرآن، وبأن الصلوات خمس، وبحج البيت، وبصوم رمضان، فما نعرف الله إلا بهذه الأحاديث». (السنة، لعبدالله بن أحمد (1/273).)
قال الحافظ ابن بطة رحمه الله -بعد أن ساق الأحاديث الدالة على صفة اليد لله رب العالمين: «فهذه الأحاديث وما ضاهاها، وما جاء في معناها، في كمال الدين، وتمام السنة: الإيمان بها، والقبول لها، وتلقيها بترك الاعتراض عليها، واتباع آثار السلف في روايتها بلا كيف، ولا لِمَ». (الإبانة، لابن بطة (3/313).)
وكما وصف نفسه بصفات الكمال والجمال والجلال والعزة والكبرياء، فقد نفى عن نفسه صفات النقص، ولم يكن النفي في الصفات هو الأصل في القرآن والسنة؛ لأن الأصل هو إثبات الصفات، والقرآن والسنة مملوءان ببيان صفات الله عز وجل كما ينبغي لجلاله وعظمته وكماله، والرب سبحانه وتعالى إذا نفى عن نفسه صفة، فإنما ينفيها؛ لبيان الكمال في ضدها؛ أو لأن البشر نسبوا النقص إلى ذي العزة والكمال، فينفي الرب النقص المنسوب إليه.
ومما نفاه الرب عن نفسه: السِّنَة، والنوم، كما في قوله تعالى: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255]، ونفى النسيان، فقال الحق: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، ونفى الحق سبحانه وتعالى عن نفسه اللغوب؛ لأن اليهود -عليهم لعنة الله- نسبوا إلى الله التعب لما خلق الخلق، ونفى الحق سبحانه وتعالى أنه استراح بعد تمام الخلق، فقال جل في علاه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوب} [ق: 38].
وأثبت ربنا أنه خلق الخلق لحكمة عظيمة، ولم يخلق خلقه عبثًا، فنفى ربنا عن نفسه العبث، وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُون} [المؤمنون: 115]، وبين الحق أن حكمه العدل وقوله الفصل، وأنه لا يظلم أحدًا؛ لتمام عدله سبحانه وتعالى، فقال ربنا جل وعلا: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد} [فصلت: 46].
ونسبت اليهود والنصارى الولد إلى الله، مشابهة للذين كفروا من قبلهم، فنفى الله الولد عن نفسه، فقال المولى جل شأنه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91]، وبين الحق سبحانه وتعالى أن من كان له ولد فلا بد له من صاحبة، والله منزه عن الصاحبة والولد، فقال سبحانه وتعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [الأنعام: 101]، وقال: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا} [الجن: 3].
ونؤمن أن الله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى، وأن أسماءه قد بلغت الغاية في الحسن، فلا أحسن منها، قال الحق جل في علاه: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [طه: 8]، ومنها ما ورد في قوله تعالى: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * الرَّحْمـنِ الرَّحِيم * مَـلِكِ يَوْمِ الدِّين} [الفاتحة: 2-4]، وفي قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُون * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [الحشر: 22-24].
وأسماء الله مشتقة، وليست جامدة، وكل اسم يشتق لله منه صفة، فتشتق صفة الرحمة من الرحيم، والعزة من العزيز، والحكمة من الحكيم، والحياة من الحي، وهكذا.
وأسماؤه لا حصر لها، قال صلى الله عليه وسلم: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ»، (أخرجه الضبي في الدعاء (6)، وابن أبي شيبة في المصنف (29930)، وفي المسند (329)، وأحمد (3712)، والحارث بن أبي أسامة في المسند، كما في بغية الباحث (1057).) وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا: مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ». (أخرجه البخاري (2736)، ومسلم (2677)، والترمذي (3506)، وابن ماجه (3860).)
وحذرنا ربنا من الإلحاد في أسمائه، فقال جل في علاه: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون} [الأعراف: 180].
والإلحاد في أسمائه أنواع؛ منها: التسمي بأسمائه التي لا يجوز أن يتسمى بها البشر، كالخالق، والرحمن، وغيرها. ومنها: تسمية الأصنام بأسماء مشتقة من أسماء الله، كاللات من اسم الله، والعزى من العزيز. ومنها: إنكارها، أو جحود معانيها، أو تعطيلها.
وما ورد في القرآن والسنة من أسماء الله وصفاته أعظم من أن يحيط به كتاب، ولكن يكفينا شرفًا أننا أشرنا إلى جُمَلٍ في هذا الباب.
ونؤمن أن المسلم يجب عليه ألا يصف الله، أو يسميه إلا بما وصف به نفسه أو سمى به نفسه، أو وصفه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ويسكت عما وراء ذلك.
ونحن نؤمن بهذه الأسماء والصفات على مراد ربنا، وعلى مراد رسولنا صلى الله عليه وسلم، ونعلم أن حقائقها لا يعلم بها البشر، ولا يحيطون بها، ولا تبلغها أفهامهم، ولا نتكلف في تأويلها؛ لأن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {وَمَا أَنَا مِن المُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، وكما أن في الجنة من أصناف النعيم الوارد ذكرها في القرآن والسنة ما يشترك مع أمثالها في الاسم من نعيم الدنيا، إلا أن بينهما من التفاوت والتباين ما لا يحيط به البشر، فإذا كنا نؤمن بنعيم الجنة، ونحن لم نره، ولا نعلم حقيقته وكيفيته - فالله أعظم من أن يشابهه البشر لمجرد الاشتراك في الصفات أو الأسماء، ولا يلزم من ذلك نفي الأسماء والصفات عن الله لمجرد الاشتراك اللفظي.
وقد توارد أئمة الهدى والعلم على تقرير ذلك، قال ابن أبي زمنين: «فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس في شيء منها تحديد ولا تشبيه ولا تقدير، فسبحان من ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير. لم تره العيون فتحده كيف هو كينونيته، لكن رأته القلوب في حقائق الإيمان به». (أصول السنة، لابن أبي زمنين (ص: 74).)
وقال عبدالرحمن بن القاسم: «لا ينبغي لأحد أن يصف الله إلا بما وصف به نفسه في القرآن، ولا يشبه يديه بشيء، ولا وجهه بشيء، ولكن يقول: له يدان، كما وصف نفسه في القرآن، وله وجه كما وصف نفسه، يقف عند ما وصف به نفسه في الكتاب؛ فإنه تبارك وتعالى لا مثل له ولا شبيه، ولكن هو الله لا إله إلا هو كما وصف نفسه، ويداه مبسوطتان كما وصفهما: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: ٦٧] كما وصف نفسه». (أصول السنة، لابن أبي زمنين (ص: 75).)
وقال الإمام الحميدي رحمه الله: «وما نطق به القرآن والحديث، مثل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: ٦٤]، ومثل: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: ٦٧]، وما أشبه هذا من القرآن والحديث، لا نزيد فيه، ولا نفسره. نقف على ما وقف عليه القرآن والسُّنَّة». (العلو للعلي العظيم، للذهبي (ص: 168).)
وقال الإمام أحمد: «نعبدالله بصفاته كما وصف به نفسه، قد أجمل الصفة لنفسه، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه تعالى ذكره صفة من صفاته شَنَاعَةً شُنِّعَتْ، ولا نزيل ما وصف به نفسه من كلام، ونزول، وخُلُوّه بعبده يوم القيامة، ووضْع كنفه عليه، هذا كله يدل على أن الله يُرى في الآخرة، والتحديد في هذا بدعة، والتسليم لله بأمره، ولم يزل الله متكلمًا عالمًا غفورًا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب، فهذه صفات الله وصف بها نفسه لا تدفع، ولا ترد، وقال: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23]، هذه صفات الله وأسماؤه». (الإبانة الكبرى، لابن بطة (7/326).)
وقال الإمام قِوام السنة أبو القاسم -وقد سئل عن صفات الرب تعالى- فقال: «مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن سعيد، وعبدالرحمن بن مهدي، وإسحاق بن راهويه: أن صفات الله التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله، من السمع، والبصر، والوجه، واليدين، وسائر أوصافه، إنما هي على ظاهرها المعروف المشهور، من غير كيف يتوهم فيه، ولا تشبيه ولا تأويل». (العلو للعلي العظيم للذهبي (2/459).)
وقال أيضًا: «وأنا أذكر - بتوفيق الله تعالى - جماعة من أئمتنا من السلف ممن شرعوا في هذه المعاني، فمنهم: أبو عبدالله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري؛ فإنه قد أظهر اعتقاده، ومذهبه في السنة في غير موضع، وقد أملاه على شعيب بن حرب، ومنهم: أبو محمد سفيان بن عيينة الهلالي؛ فإنه قد أجاب في اعتقاده حين سئل عنه كما رواه محمد بن إسحاق الثقفي، ومنهم أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي إمام أهل الشام؛ فإنه قد أظهر اعتقاده في زمانه، ورواه ابن إسحاق الفزاري، ومنهم: أبو عبدالرحمن بن عبدالله بن المبارك إمام خراسان، والفضيل بن عياض، ووكيع بن الجراح، ويوسف بن أسباط، قد أظهروا اعتقادهم ومذاهبهم بالسنن، ومنهم: شريك بن عبد الله النخعي، ويحيى بن سعيد القطان، وأبو إسحاق الفزاري، ومنهم: أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي المديني إمام دار الهجرة وفقيه الحرمين؛ فإنه قد أظهر اعتقاده في باب الإيمان والقرآن، ومنهم: أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المطلبي سيد الفقهاء في زمانه، ومنهم: أبو عبيد القاسم بن سلام، والنضر بن شميل، وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي من تلاميذ الشافعي أظهر اعتقاده حين ظهرت المحنة في باب القرآن، ومنهم: أبو عبدالله أحمد بن حنبل سيد أهل الحديث في زمانه، .... وكان أبو أحمد بن أبي أسامة القرشي الهروي مِنْ أفاضل مَنْ بخراسان من العلماء والفقهاء أملى اعتقادًا له، قال: وينبغي لمن منَّ الله بعلم الهداية والكرامة بالسنة ممن بقي من الخلف، القدوةُ ممن مضى من السلف، وأن مذهبنا ومذهب أئمتنا من أهل الأثر: أن نقول: إن الله عز وجل أحد لا شريك له، ولا ضد له، ولا ند، ولا شبيه له، إلهًا واحدًا صمدًا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، ولم يشرك في حكمه أحدًا». (الحجة في بيان المحجة (2/508).)
وقال أيضًا رحمه الله: «سبيل الأخبار الواردة في الصفات: أن يؤمن بها، ولا يُتعرض لها، وتمضى كما أمضاها الأسلاف، من غير تمثيل، ولا تأويل». (الترغيب والترهيب، لقوام السنة (1/253).)
وقال ابن قتيبة رحمه الله: «وعدل القول في هذه الأخبار -أي أخبار الصفات- أن نؤمن بما صح منها بنقل الثقات لها، فنؤمن بالرؤية والتجلي، وأنه يعجب، وينزل إلى السماء الدنيا، وأنه على العرش استوى، وبالنفس، واليدين، من غير أن نقول في ذلك بكيفية، أو بحد، أو أن نقيس على ما جاء ما لم يأت، فنرجو أن نكون في ذلك القول والعقد على سبيل النجاة غدًا، إن شاء الله تعالى». (الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية، لابن قتيبة (ص: 53).)
وقال الزهري: «على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم». (الحجة في بيان المحجة (2/512)، وشرح السنة للبغوي (1/171).)