قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون} [الأنعام: 112]، وقال الله جل ذكره وتقدست أسماؤه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31].
اقتضت حكمة الله أن يهدي من يشاء بفضله، وأن يضل من يشاء بعدله، كما اقتضت حكمته أن يكون لكل نبي عدو، وأن يكون بين هؤلاء الأعداء تواصٍ على الباطل وتوافق في مقالاتهم، قال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيم} [فصلت: 43]. فمقالات الملأ في كل أمة متماثلة، فتارة يقولون: إنه ساحر أو كاهن أو كاذب، كما في قول فرعون لموسى فيما أخبر الله عنه بقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِين * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّاب} [غافر: 23، 24]. وتارة ينكرون أن يكون أتاهم بآية، كما قال تعالى: {قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِين} [هود: 53]. وتارة يزعمون أنه يفتري الكذب على الله، قال الله مخبرًا عن مقالتهم الخبيثة: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِين} [سبأ: 43].
وتارة يصفونه بالجنون، قال تعالى: {وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُون} [الحجر: 6]، وقال سبحانه مخبرًا عن مقالتهم: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُون} [الشعراء: 27]. وحاشا رسل الله عليهم السلام، وهم أكمل الناس عقولًا، وأزكاهم قلوبًا.
وتارة يستعظمون ما يدعوهم إليه من الدعوة إلى عبادة الله وحده، قال تعالى مخبرًا عن مقالتهم أنهم قالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِين} [الأعراف: 70]، وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب} [ص: 5].
وتارة يردون على النبي دعوته؛ لأنه بشر مثلهم، قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا} [هود: 27]، وقال تعالى: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُون} [الأنبياء: 3].
وتارة يطالبونهم بأمور ليست في قدرة الخلق -ولكنه الاستكبار والعناد- فقد طالبوا نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يفجر لهم من الأرض ينبوعًا، أو يكون له جنة، أو يسقط السماء عليهم كسفًا، أو يأتيهم بالله والملائكة، أو يكون للنبي بيت من زخرف، أو يرقى في السماء، وينزل عليهم كتابًا، كما في قوله عز شأنه وتعالى سلطانه: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولا * قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولا} [الإسراء: 90-95].
وتارة يطالبون النبي بأن يأتيهم بما يعدهم به من العذاب، قال تعالى: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِين} [الأعراف: 70]، وقال عز شأنه: {فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِين} [الأعراف: 77].
وتارة يتّهمون الرسول بالضلالة أو السفاهة، كما في قولهم الذي قصه الله علينا في قوله الحكيـم: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِين} [الأعراف: 66].
وتارة يصدون عن سـبيل الله، ويقولون لأتباعهم: لا تسمعوا لهذا القرآن، والْغَوْا فيه، كما أخبر الله عنهم؛ قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون} [فصلت: 26].
وتارة يقابلون الرسول بالتكذيب، كما أخبر الله تعالى أنهم قالوا: {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِين}، أو يتهمون الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الذي يعلمه بشر وليس الذي يأتيه وحيًا من الله، قال المولى عز شأنه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِين} [النحل: 103].
وقد ينصرفون عن الرسول؛ لأن الذين اتبعوه هم الضعفاء، كما في قوله تعالى مخبرًا عن قوم نوح: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِين} [هود: 27]، وقال هرقل لأبي سفيان: «وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ». (أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773).)
وتارة يسخرون، ويستهزئون من الرسل كما في قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون} [التوبة: 65]، وكما في قوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُون} [هود: 38]. وتارة يخادعون الرسول، ويطمعون في مداهنته لهم أو الركون إليهم، كما في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون} [القلم: 9]. وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا} [الإسراء: 74].
وتارة يتطاولون على النبي بالتعيير كما قال فرعون لموسى عليه السلام : {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِين} [الزخرف: 52].
وقول أبي سفيان -وهو في الشام- عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ خَرَجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ «ابْنِ أبي كَبْشَةَ»، إِنَّهُ لَيَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ». (أخرجه البخاري (4553)، ومسلم (1773)، والترمذي (2717).)
وتارة يهدد الملأ النبيَّ بالإخراج من الأرض، كما قال الله تعالى في قوم شعيب: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُون} [الأعراف: 88].
وقال الحق جـل شأنه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13]، وقال قوم لوط للوط ومن آمن معه كما أخبر الله عنهـم: {أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُون} [الأعراف: 82]. وحاصر كفار قريش نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم ومن معه، وبني هاشم، في الشِّعْب ثلاث سـنين، وأخرجوه من بلده صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «لَمَّا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قِسْمَةَ حُنَيْنٍ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: مَا أَرَادَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَصَبَرَ». (أخرجه البخاري (4335)، ومسلم (1062)، والترمذي (3896).)
وحاول قـوم إبراهيم عليه السلام إحراقه بالنار، فنجاه الله سبحانه وتعالى، قال المولى عز شأنه: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبـوت: 24]، وقال الله مخبرًا عما فعـل بنو إسرائيل مع أنبيائهم: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُون} [البقرة: 87].
هذا هو دَيْدَنُ المستكبرين مع المرسلين، وهذه سنة جارية يتبعها الملأ في كل أمة مع المصلحين.
وسنة الله جارية بنصر رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَاد} [غافر: 51]، وقال تعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِين} [الأنبياء: 9].