نعلم أن مما يضاد الإيمان بالله: الكفر بالله، وهو أكبر وأصغر، والكفر الأكبر يضاد أصل الإيمان، والكفر الأصغر يضاد كماله، والأكبر مخرج من الملة، ولا يقبل الله من صاحبه صرفًا ولا عدلًا، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} [آل عمران: 85]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِين} [آل عمران: 91]، وقال الحق جل في علاه: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُون} [البقرة: 48]. والكفر محبط لجميع الأعمال، قال الحق جل شأنه: { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} [المائدة: 5]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} ، قَالَ: «أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعُرْوَةُ الْوثْقَى، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ عَمَلًا إِلَّا بِهِ، وَلَا يُحَرِّمُ الْجَنَّةَ إِلَّا عَلَى مَنْ تَرَكَهُ». (تفسير الطبري (3/113) و (9/593). وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1307)، ولكن في تفسير قوله: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ }.)
والكافر خالد مخلد في النار، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقا * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا} [النساء: 168، 169].
والكفر الأكبر أنواع، أخبر الله عنها في كتابه، وذكر أن كفر الكافرين تارة يكون جحودًا قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُون} [الأنعام: 33]، وقال الحق جل شأنه: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُور} [لقمان: 32]، وقال عز من قائل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِين} [النمل: 14].
وتارة يكون الكفر امتناعًا واستكبارًا عن الحق، قال تعالى في إبليس -وهو إمام الكافرين: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين} [البقرة: 34]. وقال نوح: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح: 7].
وتارة يكون الكفر تكذيبًا، كما قال الله في الأمم السابقة: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَاب} [آل عمران: 11]، وقال تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُون} [الانشقاق: 22]. ولا فرق بين أن يكون التكذيب باللسان، وأن يكون بالقلب، قال الحق في المنافقين: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الحشر: 11]، وقال عز شأنه: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون} [المنافقون: 1].
وتارة يكون الكفر شكًّا وظنًّا، فهو متردد في أمر الحق، شاك في البعث ولقاء الله، قال تعالى مخبرًا عن صاحب الجنة أنه قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف: 36]، فقال له صاحبه المؤمن: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف: 37].
وتارة يكون الكفر سبًّا واستهزاءً، كما قال المولى عز شأنه مخبرًا عن الكافرين: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون} [الأنعام: 10]، وقال تعالى مخبرًا عن قوم نوح وسخريتهم به: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُون} [هود: 38].
وتارة يكون الكفر إعراضًا وصدًّا عن سبيل الله، قال تعالى مخبرًا عن إعراض الكافرين: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُون} [الأنبياء: 24]، وقال عز شأنه وتقدست أسماؤه: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُون} [الأحقاف: 3].
وتارة يكون الكفر بغضًا للحق، قال المولى عز شأنه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم} [محمد: 9].
ونعلم أن من الكفر كفرًا دون الكفر الأكبر، وهو الكفر الأصغر، ولا يضاد أصل الإيمان، ولكنه يضاد كماله، ولا يخلد صاحبه في النار، ولا يحبط جميع الأعمال، وهو أنواع كثيرة.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «سِبَابُ المسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»، (أخرجه البخاري (48)، ومسلم (64)، والترمذي (1983)، والنسائي (4108)، وابن ماجه (69).) ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ»، (أخرجه مسلم (67).) وقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ». (أخرجه البخاري (121)، ومسلم (65)، والنسائي (4131)، وابن ماجه (3942).)
فهذا الكفر لا يُخرج من الملة، ولا يُخلد صاحبه في النار؛ لأن الله سمى المؤمنين المتقاتلين إخوانًا، فقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، فسماهم مؤمنين وهم يتقاتلون، وقال إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله - بعد أن ساق جملة من هذه الأحاديث وأمثالها: «هذه الأحاديث التي جاءت: «ثلاث من كن فيه فهو منافق» هذا على التغليظ، نرويها كما جاءت، ولا نفسرها... ونحوه من الأحاديث مما قد صح وحُفظ فإنا نسلم له، وإن لم يُعلم تفسيرها، ولا يُتكلم فيه، ولا يُجادل فيه، ولا تفسر هذه الأحاديث إلا بمثل ما جاءت». (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 182).)